لقاء مع غريب تحول لصداقة قوية لكن الحياة كان لها رأي آخ


لقاء مع غريب تحول لصداقة قوية لكن الحياة كان لها رأي آخر



يحدث أن تكون مسافرا في يوم من الأيام وتتكلم مع شخص لا تعرفه ولا هو يعرفك، لم يسبق لك أن رأيته من قبل، ولا شبَّهته بأحد، تتعارفا فجأة فيتحول التعارف إلى صداقة، صداقة تكون قوية بين الذكرين، أو حب ينتهي بزواج بين غريبين.
في واقعتي هذه لم يحدث حب ولا زواج، حتى نتوقف معا عن الخيال الرومانسي، بعدما انتقلت للدراسة بالثانوية، لم يكن بها شيء جديد يشعرني بلهفة الاكتشاف والبحث عن ما لا أعرفه، نفس التلاميذ الذين درسوا معي من قبل، نفس الانتماء الجغرافي والقبلي، قبيلة مثيوة، والثانوية بالجبهة (يسمونها المدينة الصغيرة)، الشيء الوحيد الذي كان يشعرني فيها بالهدوء هو البحر و(مرصدار).

قضيت هناك حوالي شهر وآن أوان العودة، لم أجد من يقلني إلى ووزكان؛ تأخرت عن الحافلة (207)، فما الحل إذا إلا البحث عن وسيلة أخرى (الخطاف)، انتظرت كثير بقنطرة (واد البومپا)، ربما دخنت هناك أزيد من عشر سجارات، بدأت الشمس بالغروب وبدأ معها التفكير في تأجيل السفر و العودة إلى القسم الداخلي للمبيت هناك، وفي لحظة ظهرت مرسيديس 240 بيضاء، يسوقها رجل يعتمر قبعة أكل عليها الدهر وشرب، شعر أبيض ووجه شاحب، وجه كهذا ترى فيه انعكاس الألم والأسى، ترى فيه ماض مأساوي، لا يمكن أن تقرأ أو ترى كل هذا إلا إذا كنت مررت بها كلها أو بعضها، هذه لا تدرس في مدارس الدولة، مدرسة وحيدة في الكون تعلمك إياها هي الحياة.
-سلام فين ماشي؟
-طلع لووزكان.
-‏يالله طلع.
-‏هي لولى ولكن بلاتي نكمل هاد كارو.
-‏رمي عليك زبل راك باقي صغير غتخرج على راسك.
-‏وييه عندك الحق أعمي ولكن راه سنوات دابا، ولكن متخممش راني كنحاول إدا بغا الله.
ركبنا في السيارة وانطلقنا على أنغام أغنية كادت تتسبب لي القيأ، طلبت منه تغييرها، فقال بأنه لا يملك غير كاسيت واحد، فهو في الغالب يحب تشغيل الراديو، في هذه الحالة أفضل الراديو وإن كان يبث بالصينية.
في البداية سألني عن اسمي وابن من أكون؟، ظننته شخصا فضوليا، فقلت في نفسي أنه مجرد (خطاف) لا داعي للإجابة عن أسئلة، حاولت مجارته من باب قتل الوقت.
- احرز ابن من أكون.
- ‏من ملامح وجهك يبدو أنك ابن المختار من إمجران.
- ‏أحسنت يا رجل، وهل تعرف أبناء المختار كلهم.
- ‏ المختار أعز رجل عندي من إمجران، رجل عند كلمته و أبنائه مثله، ولكن أنت لا أعرفك!.
- ‏ فقلت وقد بدأت أتحمس للحوار معه: هذا لأنني قليل الظهور، فمعظم وقتي داخل الحجرات الدراسية، وربما كنت تراني وأراك ولكني لا نعرف بعضنا البعض أو لم يقدر لنا ذلك إلا اليوم
- إذن أنت ابن المختار ؟
- ‏في حقيقة الأمر،‏ كدت أن تكون مصيبا ولكني حفيد المختار، ابن الزاكي من إمجران.
- شجرة عائلة شريفة ومحترمة!، أنت إذن ابن صديقي الزاكي الذي طالما هزمته في مباراة (الضمة) و (البارتشي)،  إنه  من أعز أصدقائي، لم أكن أعلم أن له ابنا في عمرك، يبدو أنه تزوج صغيرا!.
- قلت وأنا أنظر في شاشة هاتفي الجديد: نعم تزوج ابن الثمانية عشر سنة.

‏ ومن بين المستملحات التي وقعت معي بسبب عمره وقصر قامته وملامح وجهه،  ذات مرة كنت قد أكثرت الغياب في بني بوفراح، وفي كل مرة كنت أستعمل ورقة سماح الدخول بدون تاريخ، حتى أوصلها أحد فاعلي الخير للحارس العام، طلب مني أن أحضر ولي أمري وأني محروم من الدراسة إلى أن يأتي، وذاك حصل، بعد ثلاثة أيام حضر أبي، ولما دخلنا على الحارس العام، الأصلع المتربع على كرسيه المتحرك، نظر إلينا، وقال غاضبا:
- ‏أنا قلتلك جيب بابك ماشي خاك وش مكتفهمش العربية ؟!!.
‏لم أنبس ببنت شفة، أعلم أن أي كلمة ستستعمل ضدي في المحكمة العليا، ابتسم أبي ثم عرفه بنفسه، فذهل الذي كفر، بدا الحارس وكأنه غير مصدق، فطلب منه البطاقة التعريف الوطنية، ثم أخذ ملفي من الخزانة وقارن المعلومات الموجودة بالملف بتلك الموجودة بالبطاقة، ضحك عندما وجدها متطابقة تماما، وربما نظر لتاريخ ولادتي وسنه ليخرج بالسن المحتمل الذي تزوج فيه.
قال وهو يسلم على أبي معيدا له بطاقته الوطنية:
‏- أعتذر عن سوء فهمي، تفضل بالجلوس، أما أنت فابقا واقفا عقابا لك.
‏لا تهم تفاصيل الحوار الذي دار بينهما، ولكن ما حدث بين الحارس وأبي في البداية كان سببا في إعفائي من التزام خطي واكتفيت بالاتزام الشفوي، ولكني بعدها تغيبت وانتقلت لتجربة أخرى وهي تمزيق ملف الغياب، جربت ذلك مرتين فقط، أما في ما بقي من السنة كان هناك من يستبدل ورقة الغياب بورقة فارغة.

وجدت (الخطاف)  الخمسيني يضحك ملأ شدقيه، بعدها بدأ يقص علي بعضا من تجاربه الكثيرة في الحياة.
بعدها التعارف الغريب استمرت صداقتي به لأزيد من ست سنوات، كأننا صرنا إخوة، عندما كنت أتصل به من الجبهة كان يحرك سيارته دون ملل لأنه يثق بي.
كانت آخر مرة ركبت فيها سيارته في مايو سنة ٢٠١٧ من ووزكان إلى الجبهة،  عندما كنت متجها إلى مدينة تطوان، وكان آخر لقاء لي به قبل شهر ونصف تقريبا، إنه ابن (البنيان) المعروف بالحاج.
ضحكنا معا وتحدثنا كثيرا عن الحياة والموت، وكان دائما يطلب موتا بلا ألم، لا أعرف موتا بلا ألم، ولكني متأكد أنك ذقت طعمه الأن، سنلتقي يوما ما، نتعرف على بعضنا في عالم آخر ونتحدث عن حياة الأرض التي خدعتنا لدرجة أننا لم نودع بعضنا البعض ولم أزر قبرك بعد.
بقلم: محمد أمجار

تعليقات

إرسال تعليق

اترك لنا تعليقا عن أي استفسار، التعاليق تشجعنا لأنها مهمة لمحركات البحث، لا تنسى ولو التحية "السلام عليكم" 👋😁