من ذكريات الطفولة ..فرحتي بأول هاتف في حياتي دفعت ثمنها غاليا

من ذكرياتي المريرة..فرحتي بأول هاتف في حياتي دفعت ثمنها غاليا



في فترة بدأت الهواتف النقالة تشكل هاجسا لكل أبناء قريتنا، كنا نجتمع أزيد من عشرة أشخاص في "سور القصبة" ولا تجد بيننا سوى شخص واحد يمتلك هاتفا، في الغالب يكون هو كبيرنا " الذي علمنا السحر"، ولكن بعد مدة أصبح الكل يمتلك هاتفه الشخصي ولم يعد الجمع كما كان، حينها بدأ يراودني الشعور بالانقراض، صرت وحيدا، من أين سأحصل على هاتف شخصي؟.



 فكرت في الطرق الممكنة والغير ممكنة كي أحصل على هاتف أتباهى به أمام أقراني، وعوض أن أكتب أو أقرأ الرسائل لهم أكتبها وأقرأها لنفسي، فأنا أولى بمن تكتب لي وأقرأ لها، فمع الترجيب صرت أحفظ كل العبارات المتداولة وكل الكلمات الرقيقة، كانت رقيقة أنذاك أما الأن كلما تذكرتها أضحك بسخرية. 

ذات مساء تسللت خلسة لغرفة أبي بينما كانوا في وسط الدار منكمشين حول المدفئة،"شيمنيا"، أعلم أين توجد النقود، لذلك اتجهت نحوها مباشرة، فتحت تلك الحقيبة الصغيرة، لا أعلم حتى من أين حصل عليها، أكل عليها الدهر وشرب كما يقولون، لا وقت لدراسة التاريخ الآن، انتقلت لما بداخلها، بضع دراهيم لا تسمن ولا تغني من جوع ولكنها كادت أن تفضحني بصوتها المزعج، نعم هذا ما أريد، رزمة زرقاء تسر الناظر إليها، تعالي إلي، كم تبدو جميلة وهادئة، ولكن أخذها كاملة سيؤدي إلى أحد الاحتمالين؛ إما الحكم "بالسليخ " بما تحويه الكلمة من معنى مع الأعمال الشاقة مدى الحياة، وإما الإعدام المباشر، الاحتمال الأخير غير وارد، بل منعدم ولكنه يبقى احتمال. 

فكرت جيدا، ثم بدأت أسحب ورقة تلو الأخرى من وسط الرزمة، حتى أحافظ على تناسقها ولا أثير الشبهات، أخذت ثلاث ورقات، كافية لحصولي على هاتف متواضع (كل الهواتف كانت متواضعة في تلك الأيام).

 في صباح اليوم الثاني خرجت من البيت وآخر قضمة خبز تلتوي بين أضرسي، هيا ووزكان تنادي، شعور بالسعادة مصحوب ببعض القلق مما هو قادم، ولكنه كان شعورا رائعا، وأخيرا سأمتلك هاتفا، يا لسعادتي!.

وصلت إلى "ووزكان"، مركز جماعتنا وثاني سوق أسبوعي بقبيلة "مثيوة" بعد " الجبهة"، لا يوجد سوى بقال واحد يبيع الهواتف بووزكان، إنه شوقي حرحور، صديق اليوم وعدو الأمس. دخلت عنده ثم نظرت إلى علبة زجاجية، إنها معرض الهواتف بووزكان، نوكيا بالأذن، موتورولا بالأذن، وفصيلتين منقرضتين لا أتذكرهما، عددهم لا يتجاوز العشرة، أعجبتني موتورولا لصغر حجمها وللونها الأسود، الأسود لوني المفضل، ربما لأنه اللون الوحيد الذي لم تكن تظهر به الأوساخ أنذاك، الأبيض كان محرم علينا منذ الطفولة. 

بعد مساومة دار بيننا حول ثمنه اتفقنا في الأخير على مبلغ ثلاثة مائة درهم، ثمن لا بأس به، ستبقى عندي ثلاثة مائة درهم أخرى، اشتريت بطاقة سيم بخمسين درهم، وتعبئة بخمسين درهم، لم يكن شيء اسمه تعبئة عشرون أو عشرة أو خمسة، كنت في حاجة ليوم عمل كامل كي تشتري تعبئة. بدأ شوقي البقال يقدم لي النصائح وإرشادات الاستعمال كأنه مؤسس موتورولا "بول جالفين" بنفسه، تركته وذهبت للمقهى، أشحن الهاتف كما أمر المهندس مارتن كوبر.

 لم تكن وصلتنا الكهرباء حينها، حتى المقاهي كانت تعمل بالغاز "الموتور"، كنا نعتمد في الغالب على "الشمع" و "اللمبة" و"البوطة فتيلا"، وقلة قليلة تعتمد على كهرباء الطاقة الشمسية. 

كانت أول مكالمة أجريتها مع فتاة لا أعرفها ولا هي تعرفني، حصلت على رقمها من أحد زملائي، ويا للحوار الشيق الذي دار بيننا، أعتقد أنني أصبت بعقدة نفسية من ذلك اليوم، في كل الحالات لا أحد سيقطع عليك الاتصال، المهم أن تبقى على اتصال وتفرغ ما في جعبتك من كلمات وعبارات معسولة، وتفرغ كبتك للحنان حتى تسمع صوت المنادي ينادي: - " اعتمادكم غير كاف لإجراء هذه المكالمة، المرجو تعبئة حسابكم".
 كنا في الغالب لا نعبئ إلا مرة أو مرتين في الشهر، فنقضي كل الوقت في اللعب والاتصال بأرقام الطوارئ.

 عدت في المساء مسرورا، بل سعيد جدا لدرجة لم أنم تلك الليلة إلا سويعات قليلة، كل نصف ساعة أو أقل استيقظ مفزعا، أتحسس هاتفي أسفل المخدة ثم أتعوذ وأحمد وأسبح، وأعود للنوم. 

طيلة أسبوع وأنا أجري المكالمات لكل الأرقم التي أصادفها، كتلك التي حصلت عليها من أصدقائي، والمكتوبة في الدفاتر، والكتب المدرسية، عبأت بكل ما بقي من كنز أبي ثم بقيت أتصل بهاتف فارغ، العبث في كل شيء، حتى أرقام الطوارئ والشرطة لم تسلم. 

في صبيحة يوم الاثنين، وهو يوم السوق الأسبوعي بووزكان، كنا مجتمعين حول مائدة الإفطار، خبز وشاي وزيت العود، في لحظة ملعونة حدث ما لم يكن في الحسبان، رن الهاتف، يا للمصيبة!!. 

بدأ أبي ينظر إلي كأنه أول مرة يراني، كأني لست من صلبه، أمواج وألوان اختلطت بوجهه، أما أنا حدث ولا حرج، بدأت أضغط الأزرار لقطع الاتصال، كأنها اتفقت على الفضح، لم ينقطع أبدا، ولكن ما الجدوى من قطع الاتصال الأن، كان بوسعي وضعه على الصامت أو الطيران، ربما حينها لم أكن ذكيا كفاية للتفكير بهذه الطريقة. 

ترك أبي لقمة كانت في طريقها إلى جوفه، كان بودي أن أقول له: "أتمم لقمتك التي كتبها الله لك، ثم أفسر لك كل شيء"، ولكني لأول مرة شعرت بعطش وعقدة في لساني، امتلاك الهاتف في هذه الفترة وأنت في هذا العمر شيء لا يتقبله العقل، عقل تلك الأيام. 

- ماذا يرن في جيبك؟، كان أول سؤال بعد عودة الروح إلى جسدها. 
- قلت في نفسي" الجوق الوطني"، لا شيء، إنه فقط هاتف أحد أصدقائي من المدرسة. أغبى كذبة في هذه الفترة، لا أحد يعطي هاتفه. 

انقض على عنقي، صفعة على وجهي كادت أركان البيت أن تهدم لدويها، أخذ مني الهاتف ثم دفعني بركلة أمتار وكأنني كرة لعب بها في السبعينات، قبل الركلة الثانية التي كان سيسجل بها الهدف، الحمد لله تدخل الحكم في اللحظة المناسبة، إنها أمي، حاولت تَهْدِئَته حتى تتحقق من صحة أقوالي، لكنه وجدها فرصة كي يعبر عن مشاعره التي يكنها لي، بدأ بالسب والشتم واللعن، ثم صار يعزي ويرثي أوراقه الزرقاء.

كان أول ما قصده محفظتي، فتحها فوجد فيها مشغل الموسيقى "وركمان"، هذه ثمنها زهيد بين عشرين وثلاثين درهم، وبطاريتان بدرهمين، وجد معها أزيد من عشر أشرطة كاسيت موسيقية، منها ما هو للشاب حسني، وكاظم الساهر وآخرون، فبدأ ينعتني بأوصاف حميدة جدا، كالحمار مثلا وباقي الأوصاف الحيوانية، وصفني بالفاشل الذي لا يمكن أن يدرس وينجح، كنت لأضحك اليوم من كلامه بالأمس، بدا المسكين كالطفل يتحسر على دريهماته التي يصرفها علي في شراء مستلزمات الدراسة. 

كانت لي رغبة قوية مصحوبة بألم في أن أقول له: 
- " عليك أن تتحسر على اليوم الذي أنجبتني فيه، أو أكثر كان عليك أن تفكر قبل إنجابي، ولكن مفاجأة، ها أنا والآتي أعظم".

 قد كان كل هذا نتيجة الصفعة والركلة، الحمد لله أنه لم يسجل الهدف، كنت لأخرج من الباب، فلا أحد يحرس هناك حتى يتلقفني، الحل الوحيد هو إسقاط مزيد من الدموع لأن الاتي بالفعل أعظم.

 إلى هنا لا زالت الأمور على أحسن ما يرام، ولكن عندما فتح المقلمة ووجد بها شاحن الهاتف، وكود البطاقة، وورقة فيها رسومات توضيحية لاستعمال الهاتف، قضي الأمر.

 توجه صوب رزمة نقوده، عندما وجدها بدا وكأنه ولد من جديد، كنت أظنها النهاية، ولكنه بدأ يعدها في هستيريا، لثلاث مرات وهو يخطئ العد، حتى تبين له بالفعل أن ست مائة درهم ناقصة.

 - ماذا يفعل الميت أمام "كفانه"؟، سؤال طرحته على نفسي. أخذ حزامه الناسف، ذاك الذي يشد به سرواله القصير، فجلدني جلدا لن أنساه أبدا، حتى كاد أن يغمى علي، ورغم كل هذا لم أعترف بما فعلت، الرجل رجل مواقف.

 أقسم ذلك اليوم على أن ألا أذهب معه للسوق، وأنه محكوم علي بقضاء اليوم كله في جلب الماء من العين البعيدة عن دارنا، كان عندنا حمارين ثم زادني أبي ثالثهما، حمار أخذه للتسوق، وحمارين بقيا لمهمة السقي، هكذا صرت أنا والحمار أخوة ونعم الأخوة.

 كلنا نعلم أن هناك شخص واحد يبيع الهواتف في ووزكان، ذهب أبي إليه كأول احتمال، شوقي قد فضح أمري، واعترف له بكل ما اشتريت من عنده، تاجر فاشل، لا يحافظ على خصوصية وسرية زبائنه، كلما كنت أمر من أمامه أشعر بخبثه وسوء نيته، إنسان لا يمكن الوثوق به أبدا، لقد تسبب لي في أسبوع من الضرب والشتم والسقي، وفي نيل ألقاب لا تحصى من ممكلكة الحيوانات.

 إلى يومنا هذا لا أتذكر تحديدا ماذا فعل أبي بالهاتف، ولكني في ذلك اليوم أقسمت على أن انتقم منه، وأني سوف أشتري هاتفا آخر مهما كلفني الأمر.

 قد أوفيت بعهدي، لم يمض سوى شهر ونصف حتى اشتريت هاتف نوكيا، كنت ذكيا كفاية هذه المرة، في كل مرة كنت أذهب فيها إلى السوق الأسبوعي أبيع السجائر والبلاستيك، أشتري قصة قصيرة أو قصتين كل أسبوع، لأني كنت مولعا بقصص الأطفال لسهولة فهمها وزهد ثمنها.

 كنت أدخر الربح وعند تكليفي بمهمة التسوق الغير أسبوعية، أبحث عن المطلوب وأقارن الأسعار ثم أشتري من عند أقلهم ثمنا وأمرر للدار فاتورة أغلاهم، وأدخر ما بين السعرين. 

هكذا اشتريت الهاتف الثاني الذي دام سنتين، وهكذا بدأت أولى مراحل التسكع في السوق من بيع البلاستيك، إلى بيع السجائر، إلى تجربة تدخين ما لم يباع أثناء قراءتي للقصص التي اشتريها، وماذا عساك تفعل عندما يجتمع عليك الجهل والفقر؟!.

تعليقات